بسم الله الرحمن الرحيم
السلام عليكم رحمة الله وبركاته
- مصر تحمي الحجاز من البرتغاليين، والحجاز عن بكرة أبيه يهبّ لنجدتها في الحملة الفرنسية :
ليس من المصادفة أن يتشابك المصير الإستراتيجي، وهاجس الاستقرار الأمني بين مصر والجزيرة العربية. فالمصالح الاقتصادية والروحية، وحركة التجارة والملاحة، وتدفقات السلع والمال والبشر والأفكار، وروابط الدم ووشائج القربى – كلها تصب في قناة وحدة المصير المُشترك.
ومع بروز أهمية ميناء جدة الإستراتيجي في السيطرة على حركة التجارة والملاحة بالبحر الأحمر مطلع القرن السادس عشر، ازدادت أطماع البرتغاليين في السيطرة عليها. وأمر السلطان قانصوه الغوري قائده حسين الكردي ببناء سور ضخم يلتف حول جدة، بدا بعيد الانتهاء من بنائه قوياً بأبراجه الستة وقلعته الحصينة – وكان بالفعل الصخرة التي تحطمت عليها آمال البرتغاليين. كانت القلعة تتبع في تنظيمها الداخلي قلاع مصر، في تقسيمها الى مجموعة من البلكات، وفي تناوب رجال مردان وطوبجيّان عليها. كانوا جنود هذه القلعة يتقاضون رواتبهم النقدية من مصر، اضافة الى مبالغ مقطوعة من دخل جمرك جدة، ومقطوعات من الخزينة المصرية كبدل انتقال وطعام.
وفي أغسطس 1789م، سيصيب نبأ استيلاء الفرنسيين على مصر أبناء الجزيرة العربية بصدمة كبيرة.. حتى أن المؤرخ والشاعر النجدي محمد بن عمر الفاخري (1772م-1860م) قال في الأخبار النجديّة:
يالهف نفسي لما قد جرى .. توالى الخطوب على القاهرة
تولى الفرنج بها بغتة .. وحلّو منازلها العامرة
لكنا نرجو بفضل الكريم .. تعادلهم كرّة خاسرة
كان نابليون قد أمر قائده ديزيه ومعه فيلق عسكري بمواصلة زحفهم باتجاه الصعيد المصري لمطاردة مُراد بك، الذي كان قد استنجد بالشريف غالب (شريف مكة) يطلب منه المعونة على الحرب ضد الفرنسيين، كما كتب الى حاكم وأهالي ينبع يستنفرهم للجهاد وانتشال مصر من براثن الإستعمار.
وأعلن إمام الحرم المكي، الشيخ محمد المغربي، الجهاد ضد الفرنسيين..فالتف حوله خلائق، ومتطوعون، حتى النساء اشتركن بالقاء مصاغهن في سبيل تحرير مصر.
وكان أول من دق طبول الحرب على الفرنسيين محمد الجيلاني، وهو من أشهر تُجار الحجاز. كان الجيلاني، كبير عائلة الجيلاني أرفع العائلات الحجازية ثراءً في جدة في استحواذها على أغلب تجارة الاستيراد والتصدير بين موانئ الحجاز ومصر منذ مطلع القرن الثامن عشر.
أخذ الجيلاني على عاتقه عبء الدعوة في الحجاز لإغاثة المصريين، فتنقل بين جدة، ورابغ، ووادي الصفراء، والمدينة، وينبع، وأراضي جُهينة لجمع الأموال وحشد الرجال يعاونه الى ذلك أخيه طاهر، وابن أخيه حسن. وأقبل الرجال المتطوعون لدعوة الجيلاني من كل أرجاء الجزيرة العربية، وبادر التاجر الجدّاوي الثري محمد باصلاح الحضرمي، بتقديم خمسمائة بندقية مغربية ومائتي حربة ومائتي سيف وأربع مائة كيس حبوب أرز وألفي نعل ينتعلها فقراء المجاهدين، وقدّم الشيخ عبدالرحمن العسيري، من جنوب الجزيرة العربية، ثلاث سواعي يركبها المجاهدون، واليهم انضم الشيخ أحمد الفاسي من أهل مكة، والشريف غالب الذي جهّز خمسة سواعي مشحونة أيضا.. ومن أهل ينبع جهّز السيد محمد أبوالعسل مراكب وسواعي أخريات من أهل ينبع. كان كبار تجار البحر الأحمر قد تضافروا لنجدة القطر المصري، تعبيراً عن تقاسم المصير، وإنقاذاً لتجارتهم البحرية من الركود والإفلاس.
وحددت المصادر الفرنسية عدد المجاهدين القادمين من الحجاز مابين 6000 و7000 مقاتل. واشتبك المقاتلون الحجازيون بالفرنسيين في ميناء القصير في الأول من يناير 1799م، قبل أن يواصلوا جولات القتال الى قنا وسمهود.
وفي أبنود، في فبراير شن المقاتلون الحجازيون بقيادة السيّد محمد الجيلاني هجوماً ضارياً على الأسطول الفرنسي كان أكبر خسارة مني بها الجيش الفرنسي في الوجه القبلي. واستمرت المعارك الضارية بين القوات المملوكية بقيادة حسن بك الجدّاوي، والقوات الحجازية بقيادة السيّد محمد الجيلاني من جهة، والقوات الفرنسية من جهة أخرى، بين بئر عنبر وقنا والقصير، كانت الخسائر الفرنسية من جرّاءها ضخمة، وخسائر الأرواح بين الحجازيين فادحة حتى أن السيد محمد الجيلاني لفظ فيها أنفاسه الأخيرة، فتفرق بعد وفاته الحجازيين من بعده حيث ذهب بعضهم الى القاهرة وبعضهم الى الشام.
لقد لعب المقاتلون الحجازيون دوراً بطولياً لافتاً في مواجهة الفرنسيين، غالباً ما تم تهميشه، غير أن دومينيك دي بيترو قال عنهم: “وفي الحقيقة اننا لم نشهد أبداً منذ قدومنا الى مصر مقاومة بهذا العنف وبهذه الضراوة، كما شهدناها مع دخول فريق مقاتلي الحجاز”.
أياً كانت نتائج تلك المعارك، تبقى دلالات تضمخ الدم الحجازي بصنوه المصري عصيّة على الإمحّاء والزوال.
منقول