ظهرت الوثائق المسرَّبة عن حرب العراق على موقع ويكيلكس، مساء الجمعة (22/10), بالتزامن مع نشرها على وسائل إعلامية في عدَّة دولٍ بينها: الجارديان البريطانية، ونيويورك تايمز الأمريكية, ولوموند الفرنسية, ودير شبيجل الألمانية, وقناة الجزيرة الفضائية.
وتناولت الوثائق معلوماتٍ عن تعذيب معتقلين في السجون العراقية, ومقتل مدنيين على نقاط السيطرة الأمريكية, ودور إيران في دعم ميليشياتٍ عراقيةٍ, وتورط مسئولين عراقيين كبار -في مقدمتهم رئيس الوزراء المنتهية ولايته نوري المالكي- في إدارة فرقٍ للقتل والتعذيب.
وفيما يلي تقريرٌ يتناول هذه الوثائق, وما ورد فيها, ومصدرها, وردود الأفعال المختلفة حيالها.
أكبر عملية تسريب أسرارٍ
أتاح موقع "ويكيليكس" المتخصِّص في نشر الوثائق السرية نحو 400 ألف وثيقةٍ عسكريةٍ خامٍ عن حرب العراق خلال 6 سنوات, وبعضها يعود تاريخه إلى عام 2009م, فيما يُعدُّ أكبر عملية تسريب أسرار في تاريخ المؤسسة العسكرية الأمريكية.
ووفق ما ذكرت صحيفة الشرق الأوسط (24/10), فقد قدم "ويكيليكس" (391) ألفاً و(832) وثيقة تغطي الفترة من 2004م إلى 2009م، وهي أرقام مضاعفة عن الوثائق التي أتاحها سابقاً وأثارت ضجة عن حرب أفغانستان.
وسبق أنْ نشر "ويكيليكس" الذي تأسس في م2006م العديد من الوثائق السرية حول الحرب في العراق وأفغانستان.
حقيقة الحرب
وعن طبيعة هذه الوثائق والهدف من نشرها.. أعلن جوليان أسانج -مؤسس الموقع- أنَّ هذه الوثائق تكشف حقيقة الحرب في العراق.
وأوضح مؤسس ويكيليكس: "في زمن الحرب، تبدأ الهجومات على الحقيقة قبل بداية الحرب، وتستمر بعدها"؛ وذلك في إشارة إلى تكتُّم الجيش عن حالات التعذيب وحصيلة العمليات.
وأضاف أسانج -وفق وكالة فرانس برس-: "نأمل في تصحيح بعض الهجومات على الحقيقة التي حصلت قبل الحرب، وخلال الحرب، والتي تستمرُّ بعد إنهاء الحرب بصورةٍ رسميةٍ", مشيراً إلى أنَّ التدقيق في التقارير التي جمعها الجيش الأمريكي تتيح التوصل إلى "حصيلةٍ مفصلةٍ لحوالي (109) آلاف قتيلٍ، منهم (66) ألف مدني".
وفي تصريحٍ منفصلٍ، أكد أسانج لـ"الجزيرة" أنَّ الوثائق قدَّمت مادة تكفي لإقامة (40) دعوى قضائية لجرائم قتلٍ غير مشروعٍ.
صحة الوثائق
وأكد أسانج صحة الوثائق السرية التي تمَّ نشرها، لافتاً إلى أنَّ الموقع سيقوم بنشر المزيد من المعلومات والوثائق السرية، موضحاً أنَّ نشر تلك الوثائق جاء من منطلق الدفاع عن حقيقة ما جرى في هذه الحرب.
ورغم أنَّ الوثائق تبدو أصلية, كما علقت وكالة أنباء "أسوشييتد برس", فإنَّ مصدرها غير معروف، ورفض الموقع تقديم أي معلوماتٍ حولها.
مصدر الوثائق
وحول مصدر الوثائق ذكرت صحيفة الجارديان (23/10) أنَّ الوثائق الجديدة من المحتمل أنْ يكون مصدرها برادلي مانينج المحلل في شؤون الاستخبارات العسكرية الأمريكية، المعتقل حالياً من قبل الحكومة الأمريكية بتهمة تسريب معلوماتٍ استخباراتيةٍ.
وقالت الصحيفة: إنَّ الوجه القبيح للقوات الأمريكية والبريطانية ظهر جلياً بعد أنْ كشفت الوثائق عن تورُّط القوات الأمريكية في عمليات تعذيبٍ وقتلٍ وجرائم حربٍ.
أهم الاستخلاصات
ونقلت وكالة فرانس برس أهم الاستخلاصات الواردة في هذه الوثاثق، والتي تُظهر أنَّ مئات المدنيين قُتلوا على حواجز تُسيطر عليها القوات الأمريكية, وأنَّ عدد القتلى المدنيين في العراق أكثر بكثير مما هو معلن.
كما برهنت الوثائق على أنَّ وزارة الدفاع الأمريكية (البنتاجون) كانت طيلة الوقت تُخفي الأرقام الفعلية لعدد الضحايا المدنيين من الشعب العراقي، فقد ظلَّ المدنيون بينهم النساء الحوامل والعجائز والأطفال، وحتى المرضى النفسيون يُقتلون طيلة سنوات الحرب على نقاط التفتيش العسكرية، وبنيران الطائرات الأمريكية المقاتلة.
وتفصح الملفات السرية عن أنَّ القوات الأمريكية كانت تحتفظ بتوثيقٍ للقتلى والجرحى العراقيين، رغم إنكارها علنيًّا لكل ذلك, كاشفة عن وجود (285) ألف ضحيةٍ عموماً.
وأتثبت تحليلات الجزيرة لهذه الوثائق أنَّ معدلات القتلى كانت في ارتفاعٍ مطَّردٍ، وأنَّ شهر ديسمبر 2006م كان الأكثر دمويةً؛ حيث قُتِلَ (5183) في ذلك الشهر وحده، وصُنَّف (4000) منهم بأنهم مدنيون.
فرق التعذيب
وأما فيما يخصُّ المسئولين العراقيين, فقد أبرزت الوثائق تورُّط رئيس الوزراء العراقي المنتهية ولايته نوري المالكي في إدارة فرقٍ للقتل والتعذيب.
وترسم الوثائق -كما تقول فرانس برس- صورة للمالكي بعيون الأمريكيين، فيبدو رئيس الوزراء المنتهية ولايته شخصاً طائفياً منحازاً بالقوة إلى طائفته الشيعية على حساب مواطنيه السنة، كما تُصوِّر هذه الوثائق وجهاً خفياً للمالكي وهو يقود فرقاً عسكرية تُنفِّذ أوامره في الاغتيالات والاعتقالات.
كما أظهرت الوثائق قيام الجيش الأمريكي بالتستُّر على أعمال التعذيب التي تعرَّض لها سجناء عراقيون على أيدي قوات الشرطة والجيش العراقيين.
وتؤكِّد وثائق ويكيليكس أنَّ الولايات المتحدة كانت على علمٍ بأعمال التعذيب هذه، لكنها أمرت جنودها بعدم التدخل.
تمويل سري
وتكشف الوثائق العسكرية الأمريكية أيضاً عن دورٍ إيراني سريٍّ في تمويل وتسليح الميليشيات الشيعية, وقالت: إنَّ إيران كانت تُهَرِّبُ -على نحو سري- السلاح التقليدي؛ لإمداد الأحزاب والمنظمات الشيعية الموالية لها، وخصوصاً جيش المهدي التابع لمقتدى الصدر، ومنظمة بدر التي كانت الجناح العسكري للمجلس الشيعي العراقي الأعلى بقيادة عائلة الحكيم، قبل أنْ تتحول تلك المنظمة إلى تنظيمٍ سياسي وفق ما هو معلن.
واللافت -كما تقول فرانس برس- أنَّ التقارير السرية في حالة إيران تذكر أسماء عملاء تقول: إنَّهم ضباط مخابرات إيرانيون، كانوا يعملون بشكلٍ يومي في العراق، وأن بعضهم متورطٌ في شنِّ هجماتٍ بالصواريخ على المنطقة الخضراء، علاوةً على إقامة نقاط تفتيش مشتركة في المناطق الشيعية يُشرف عليها عناصر أمن إيرانيون بوجود عناصر من جيش المهدي ومنظمة بدر.
ما الجديد؟
وفي شقٍّ تحليلي لهذه الوثائق ومضمونها, طرحت صحيفة البيان الإماراتية سؤالاً في عددها (24/10): ما الجديد في الوثائق التي نشرها موقع ويكيليكس؟ ومن سيقرأ هذا التل من الأوراق؟ وماذا ستغير من الواقع العراقي الأليم؟ ما المفاجآت التي ستأتي بها بعد كل هذه السنوات التي يعرف الجميع -بمن فيهم الأمريكيون- أنها كانت عبثية.. دموية الأهداف والمآرب؟!!
وتقول الصحيفة: إنَّ الإفادة -بالتأكيد- تكاد تكون معدومة للعراقيين، فهم عايشوا منذ 9 إبريل 2003م لحظاتٍ حالكةٍ لا تستطيع ملايين الوثائق الأمريكية والعراقية وصفها.
وتضيف البيان أنها للعرب -كذلك- عديمة الفائدة, فهم سمعوا مئات الروايات من أصحابها، وشاهدوا عشرات الصور والأشرطة التسجيلية التوثيقية، ملأى بوصف الفظائع والويلات والانتهاكات، ولم تهتز لهم شعرة، وكأن ما يحدث في عالمٍ آخر.. أو في ماضٍ غابرٍ.
وتأخذنا البيان لسؤال جديد: لكنَّها (400) ألف وثيقةٍ سريَّةٍ، وفيها جديدٌ حتماً.. أليس كذلك؟!
وتُضيف أنَّ البيان الجديد -وحتى توثيق القديم- لن يجد من يقرؤه، ويحرص على متابعته، سوى هناك.. على بعد (15) ألف كيلومتر, فالأمريكيون هم المعنيون الأكبر في هذا الكشف، وهم من سيتشكَّل لديه ردُّ الفعل الذي تخشاه الإدارة الأمريكية، حتى وإنْ كانت الإدارة الحالية بريئةً مما جرى قبل وصولها إلى الحكم في 2009م.
فالعد العكسي -تقول الصحيفة- بدأ لانتخابات التجديد النصفي للكونجرس، وبالتالي سيكون لـ "قنبلة ويكيليكس" شظاياها التي ستطالُ الديمقراطيين والجمهوريين الذين أوقعوا أمريكا وعشرات الآلاف من شبابها في مستنقعين دفعةً واحدةً.. والغسيلُ القذرُ الذي سيفضحه هذا الجبلُ من الوثائق سيترجم أصواتاً في صناديق الاقتراع، أو عزوفاً يوجِعُ الحِزْبَيْن.
جرائم ممنهجة
وتناولت صحيفة دار الخليج في افتتاحيتها تلك الوثائق بعنوان: "حرية العراق" بإبادة شعبه, وقالت: إنَّ الوثائق السرية التي نشرها ويكيليكس عن حرب العراق، أكدت بالأدلة الدامغة الموثقة رسمياً أهداف الحرب، والجرائم التي ارتكبت منذ وطئت أقدام الغزاة بلاد الرافدين، وكيف جرى التستر عليها، وكيف كانت تحدث عمليات القتل والتعذيب الجماعية على مرأى ومسمع من قوات الاحتلال وتحت ناظريه، وفي أحيان كثيرة بتدبيرٍ وتخطيطٍ منه، بحيث تَحوَّل شعار: "حرية العراق" إلى ساحةٍ حرةٍ للجرائم الممنهجة؛ بهدف تدمير هذا البلد وتمزيقه وقتل الحياة فيه.
وتمضي الصحيفة قائلةً في عددها الصادر بتاريخ ( 24/10) أنَّه قد يقول قائل: إنَّ جرائم الاحتلال الأمريكي كانت معروفة، وما حدث في معتقل أبو غريب والمعتقلات الأخرى، وقتل المدنيين العزَّل للتسلية، ومذابح الفلوجة، نُشِرَ وكتب عنه الكثير.
وتقول الخليج أنَّ هذا صحيحٌ, لكن الأهمية والخطورة تكمنان في أنَّ ما نُشر هو وثائق رسمية لوزارة الدفاع الأمريكية، وليس تقريراً صحفيًّا، عن وقائع حربٍ غير شرعيةٍ، وانتهاكاتٍ فاضحةٍ يقوم بها جيشٌ نظامي، ويُمارسها بأوامر من قياداتٍ عليا.
وتُضيف الصحيفة أنَّ هذه الوثائق تشكِّل أدلةً على ارتكاب جرائم حربٍ ضدَّ الإنسانية من قياداتٍ أمريكيةٍ وبريطانيةٍ سياسيةٍ وعسكريةٍ، يجب ألا تبقى بمعزلٍ عن المساءلة والعقاب، لكنَّ العدالة الدولية التي يتحدثون عنها -مع الأسف- استثنائية, تُطبَّق في رواندا وبوروندي وصربيا وسيراليون ودارفور، ويُستثنى منها أقوياء يمارسون جبروتهم وقوتهم الغاشمة؛ كالولايات المتحدة، وبريطانيا، والكيان الصهيوني؛ باعتبارها فوق القانون.
تهديد للأمن القومي
وفي إطار ردود الأفعال المختلفة, رفض البنتاجون تأكيد أصليَّةِ هذه الوثائق, لكنه خصَّص (100) محللٍ لدراسة الوثائق المسرَّبة, وشَجَبَ نشر الوثائق، متَّهماً الموقع بأنه عَرَّضَ أرواح أمريكيين للخطر، قدَّم معلوماتٍ عسكريةٍ سيستفيد منها من وصفهم بالأعداء.
وقال جيف موريل -المتحدِّث باسم البنتاجون-: "إنَّنا نشجب موقع (ويكيليكس)؛ لأنَّه يُحفِّز الناس على كسر القانون، ولأنه سرَّب وثائق سرية، بل -وفي تعجرف- نشرها على العالم، بما في ذلك أعداؤنا".
استفزاز المالكي
أما رئيس الحكومة العراقية المنتهية ولايته نوري المالكي, فقد سارع إلى اعتبار قيام ويكيليكس بنشر وثائق سرية "يهدف إلى تخريب إعادة انتخابه رئيساً للحكومة المقبلة".
واتهم بيانُ مكتب المالكي موقع ويكيليكس بالـ"تواطؤ" مع جهاتٍ إعلاميةٍ تشنُّ الحملات على الحكومة العراقية.
مخاوف الناتو
أما حلف شمال الأطلسي "الناتو" فقد حذَّر من عزم ويكيليكس نشر مئاتِ الآلاف من الوثائق العسكرية السرية التابعة للحلف التي تمَّ تسريبها له، والمتعلقة بحرب أفغانستان.
وقال سكرتير عام الحلف "اندريس فوغ راسموسن" في مؤتمرٍ صحفي مشتركٍ مع المستشارة الألمانية انجيلا ميركل في برلين الجمعة (22/10): إنَّ نشر هذه الوثائق المسرَّبة قد يُعرِّض حياة جنود الحلف العاملين في أفغانستان للخطر.
بدء تحقيقات
وفي إطار ردود الأفعال أيضاً، دعتْ منظمة "هيومن رايتس ووتش" الحكومتين الأمريكية والعراقية لبدء تحقيقاتٍ بشأن ما كشف عنه من عمليات تعذيبٍ وانتهاكاتٍ بحق معتقلين عراقيين.
وقالت منظمة "هيومن رايتس واتش" : إنَّ الملفات السرية المنشورة تتضمن أدلة لتعرُّض معتقلين للقتل والتعذيب على يد قوات الأمن العراقية، داعيةً الحكومة العراقية لمحاكمة المسئولين عن هذه التجاوزات.
مقاضاة المتورطين
أما "القائمة العراقية" بزعامة إياد علاوي فقد أكَّدت عزمها رفع دعوى قضائية أمام المحكمة الجنائية الدولية "لمحاسبة المتورطين بسفك دماء الشعب العراقي".
وأكَّد عضو "القائمة العراقية" أحمد العلواني أنَّ ما ورد في الوثائق "ليس أمراً جديداً، فقد تحدَّثت عنه قائمتنا قبل سنوات", منوِّها إلى أنَّ "أعداد ضحايا الجيش الأمريكي والسلطات العراقية أكبر بكثيرٍ من الأعداد التي ذكرها تقرير موقع ويكيليكس".
هل يفلت المجرمون؟
وفي شأنٍ متَّصلٍ, دعا المقرِّر الخاص للأمم المتحدة لشؤون التعذيب "مانفريد نواك" الرئيس الأمريكي "باراك أوباما" إلى إجراء تحقيقٍ حول صحة حالات التعذيب التي وردت في الوثائق.
وقال نواك في تصريحاتٍ نقلتها صحيفة "الشرق الأوسط": إنَّ "من واجب إدارة أوباما عندما تصدر اتهاماتٌ خطيرةٌ بحق مسئول أمريكي حول حالات تعذيبٍ أنْ تحقق وأن تستخلص العبر.. لا بدَّ من إحالة هذا الشخص إلى القضاء".
وتابع نواك: "كنت أتوقَّع أنْ يُباشر هذا النوع من التحقيق منذ وقتٍ طويلٍ؛ لأنَّ الرئيس أوباما وصل إلى السلطة واعداً بالتغيير.. من واجب الرئيس أوباما التعامل مع الحالات السابقة، ومن الواجب إجراء تحقيقٍ".
إلا أنَّ المسئول الأممي أقرَّ بأن هذا التحقيق لا يمكن إلا أن يكون أمريكياً, وقال: "إنَّ ملاحقاتٍ من قبل المحكمة الجنائية الدولية غير ممكنةٍ؛ لأنَّ الولايات المتحدة لا تعترف بهذه المحكمة".
وأضاف نواك: "إنَّ الولايات المتحدة لم توقِّع هذه الأنظمة, وبالتالي لا يمكن إحالة أي جنديٍّ أمريكي إلى المحكمة الجنائية الدولية إلا إذا كانت الجريمة قد ارتُكبت على أراضي دولةٍ وقَّعت على هذه الأنظمة"، مضيفاً "أنَّ العراق أيضاً لم يعترف بأنظمة المحكمة الجنائية الدولية".[/
CENTER]
قنبلة ويكيليكس.. هل سيفلت المجرمون من العقاب؟
العرض العادي
