منهج البحث التاريخي
و نظرا لاهمية ما يطرح من قضايا منهجية في نقد الروايات التاريخية و اثبات الحقائق رأيت أن أعرضه للاعضاء هنا عسى ان تعم الفائدة...
يستخدم المؤرخ وسائل عدة في استخلاصه للحقائق التاريخية، احدها نقد الأصول التاريخية، و التي تمكنه من التمييز بين المصادر الصحيحة و الأخرى المغلوطة. على نأخذ بعين الاعتبار أن هذا النقد المنطقي المنظم لا يقود إلى حقائق نهائية خالصة لا شك فيها، و إنما يعيننا على الاقتراب بقدر المستطاع من تلك الحقيقة المنشودة. فيخرج الباحث من خلال قراءاته برواية أو مجموعة من الروايات عن حدث ما، فهي تضطر الباحث إلى حل ما يرد فيما بينها من تناقض لاستخلاص الصورة الصحيحة منها، متبعا بعض القواعد التي تيسر له ذلك و من أهمها:
• التحقق من أن هذه الروايات المتناقضة تخص حدث واحد و ليس مجموعة من الأحداث المتشابهة ظاهريا.
• فحص الروايات لبيان أيها الصادق و أيها الكاذب، و إذا تعذر ذلك يبقى الحكم معلقا و تذكر جميع الروايات دون ترجيح.
• دراسة نوع هذه الروايات و ليس فقط كمها، فقد تكون رواية واحدة صادقة و مجموعة روايات مخالفة للحقيقة.
• ترجيح اصح الروايات و أقربها صدقا إلى الحقيقة، و إذا تعذر ذلك يتجه البحث نحو مصادر جديدة.
و من أمثلة الروايات المتعارضة حادثة شعار باريس عام 1789م: حيث تذكر رواية ديكنو و هو مرافق الملك أن الشعار الذي كان يحمله الملك ذا ثلاثة ألوان هي الأحمر و الأزرق و الأبيض، أما روايات أخرى مستقلة عن بعضها العض تؤكد أن الشعار الذي حمله الملك كان ثنائي اللون يجمع اللونين الأحمر و الأزرق، مضافا إلى هذه الروايات مرسوم حكومة باريس الذي يأمر المواطنين الفرنسيين بوضع الشعار ثنائي اللون. أي الروايات اصدق في هذه القضية؟ ميل الكاتب إلى جانب الروايات الأخرى التي تؤكد الشعار ذي اللونين نظرا لاستقلال كل منها عن الأخرى و انتفاء المصلحة من التحريف.
كما أن الأصول التاريخية قد تورد وقائع تتعارض مع القوانين العلمية أو خلاصة المعرفة الإنسانية، و لهذا على الباحث أن يخضعها للنقد العلمي و الإنساني، فما يظنه أهل القرون الوسطى من حيل الحواة أنها حقيقة و معجزة، يبدو لنا أنها دربا من اللهو و اللعب، و ما يظنه أهل العصور الماضية من استحالة الطيران أو التراسل بالتلغراف يبدو لنا الآن واقعا مسلما به، و هكذا هو الحال. فلا يمكن عزل المصادر التاريخية عن غيرها من فروع المعرفة حتى نتجاوز النقص الذي يشوب احدها و حتى نتخير الأصدق منها.
و أما الروايات المتفقة، فهي ليست أفضل حالا من الروايات المتعارضة. إذ تضعنا أمام إشكالية أخرى و هي احتمالية وحدة المصدر، و هكذا نعود إلى إشكالية الرواية الواحدة. و لهذا يتعين على الباحث إثبات استقلالية هذه الروايات في مصدرها عن الروايات الأخرى. لكي يكون اتفاق مجموعة من الروايات ذات المصادر المستقلة اتفاقا صحيحا يؤخذ به منهجيا، يجب ألا تتشابه تماما في جميع تفاصيلها و إلا عد نقلا عن مصدر واحد، و إنما التشابه يكون في مواضع مشتركة بين الروايات. و ليست هذه خطو نهائية، فليس نهاية المطاف أن تصل إلى اتفاق مجموعة من الروايات مستقلة المصدر حول حدث ما، و إنما يجب أن يتحقق الاتساق و التالف بين الحقائق التاريخية المختلفة و التي خرج بها الباحث من نقده للأصول، حتى تتكون صورة واضحة المعالم متناسقة العناصر. فينتقل الباحث من مرحلة جمع المادة و نقدها إلى مرحلة التركيبي و التأليف.
و لكن قبل هذا يبرز لنا تساؤل، هل ما ورد في المصادر التاريخية هو الحقيقة كاملة؟ بالطبع لا، فإذا كانت المصادر قد أفصحت عن مجموعة من الأحداث، فمن الوارد أنها سكتت عن مجموعة أخرى، و كيف لنا أن نعرفها ما لم نجتهد في البحث عن اكبر قدر ممكن من المصادر حتى تكتمل لدينا الصورة و تتجمع عناصرها.
تتوافر المصادر بحسب الفترة التي نبحث فيها، فالمصادر من التاريخ القديم قليلة بعكس الوفرة التي نجدها في التاريخ الحديث، و البعض يتخذ من هذه الوفرة وما تتضمنه من تعارض جانبا سلبيا، مع انه في حقيقة الأمر أن هذا التباين و التعارض مع كثرة المصادر ينشط البحث و يوسع مداخله و يثري عناصره. و بطبيعة الحال تقل المصادر ببعد الزمن الذي نبحث فيه، فالتاريخ الحديث يمتلك الكثير و الكثير من المصادر بحكم قربنا منه و معاصرتنا له على عكس التاريخ الوسيط الذي تقل فيه مصادرنا و التاريخ القديم الذي تقل و تقل فيه المصادر، و ما نجده متوفر الآن بكثرة قد يقل بعد عصور و عصور بحكم الاستمرار الزمني إلى ما يشاء الله.
الباحث المجتهد كالقاضي الذي يتفحص أوراق القضية و ما تتضمنه من أدلة للخروج بحكم أما بإدانة المتهم أو ببراءته، كذا هو الحال مع المؤرخ الذي يتفحص المصادر و يتحقق منها و ينقدها في ضوء ما يتوفر له من أدلة و براهين كي يخرج بحكم على الأحداث التاريخية و مدى مصداقيتها للوصول بقدر الإمكان إلى الحقيقة التاريخية.