وهذه إضافة مناسبة إن شاء الله
" حتى أقدم علينا أحمد بن أبي دؤاد شيخا من أهل الشام من أهل أذنة فأدخل الشيخ على الواثق مقيدا ، وهو جميل الوجه تام القامة ، حسن الشيبة ، فرأيت الواثق قد استحيى منه ، ورق له ، فما زال يدنيه ويقربه ، حتى قرب منه
فسلم الشيخ فأحسن السلام ، ودعا فأبلغ الدعاء ، وأوجز
فقال له الواثق اجلس ثم قال له : يا شيخ ، ناظر ابن أبي دؤاد على ما يناظرك عليه
فقال الشيخ : يا أمير المؤمنين ، ابن أبي دؤاد يقل ويضيق ، ويضعف عن المناظرة
فغضب الواثق ، وعاد مكان الرأفة له غضبا عليه
فقال : أبو عبد الله بن أبي دؤاد يصبو ويقل ويضعف عن مناظرتك أنت ؟
فقال له الشيخ : هون عليك يا أمير المؤمنين ما بك وائذن لي في مناظرته
فقال الواثق : ما دعوتك إلا للمناظرة
فقال الشيخ : يا أحمد بن أبي دؤاد ، إلى ما دعوت الناس ودعوتني إليه ؟
فقال : إلى أن تقول : القرآن مخلوق ؛ لأن كل شيء دون الله مخلوق
فقال الشيخ : إن رأيت يا أمير المؤمنين أن تحفظ علي وعليه ما نقول
قال : أفعل
قال الشيخ : أخبرني يا أحمد عن مقالتك هذه ، أواجبة داخلة في عقد الدين ، فلا يكون الدين كاملا حتى يقال فيه ما قلت ؟
قال : نعم
قال الشيخ : يا أحمد أخبرني عن رسول الله صلى الله عليه وسلم حين بعثه الله تعالى إلى عباده ، هل ستر رسول الله صلى الله عليه وسلم شيئا مما أمر الله تعالى به في دينه ؟
قال : لا
قال الشيخ : فدعا رسول الله صلى الله عليه وسلم الأمة إلى مقالتك هذه ؟
فسكت ابن أبي دؤاد
فقال الشيخ : تكلم فسكت
فالتفت الشيخ إلى الواثق ، فقال : يا أمير المؤمنين واحدة
فقال الواثق : واحدة
فقال الشيخ : يا أحمد ، أخبرني عن الله تعالى ، حين أنزل القرآن على رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال : اليوم أكملت لكم دينكم وأتممت عليكم نعمتي ، ورضيت لكم الإسلام دينا أكان الله تعالى الصادق في إكمال دينه ، أم أنت الصادق في نقصانه ، فلا يكون الدين كاملا حتى يقال فيه بمقالتك هذه ؟
فسكت ابن أبي دؤاد
فقال الشيخ : أجب يا أحمد ، فلم يجبه
فقال الشيخ : يا أمير المؤمنين ، اثنتان
فقال الواثق : اثنتان
فقال الشيخ : يا أحمد أخبرني عن مقالتك هذه ، أعلمها رسول الله صلى الله عليه وسلم أم جهلها ؟
قال ابن أبي دؤاد : علمها
قال الشيخ : فدعا الناس إليها ؟
فسكت ابن أبي دؤاد
فقال الشيخ : يا أمير المؤمنين ، ثلاث
فقال الواثق : ثلاث
فقال الشيخ : يا أحمد ، فاتسع لرسول الله صلى الله عليه وسلم إذ علمها كما زعمت ، ولم يطالب أمته بها ؟
قال : نعم
قال الشيخ : واتسع لأبي بكر وعمر وعثمان وعلي رضي الله عنهم ؟
فقال ابن أبي دؤاد : نعم
فأعرض الشيخ عنه ، وأقبل على الواثق ، فقال : يا أمير المؤمنين ، قد قدمت لك القول أن أحمد يصبو ويقل ويضعف عن المناظرة يا أمير المؤمنين ، إن لم يتسع لك الإمساك عن هذه المقالة ، ما اتسع لرسول الله صلى الله عليه وسلم ولأبي بكر وعمر وعثمان وعلي رضي الله عنهم ، فلا وسع الله على من لم يتسع له ما اتسع لهم من ذلك
فقال الواثق : نعم إن لم يتسع لنا من الإمساك عن هذه المقالة ما اتسع لرسول الله صلى الله عليه وسلم ولأبي بكر وعمر وعثمان وعلي رضي الله عنهم ، فلا وسع الله علينا ، اقطعوا قيد الشيخ ،
فلما قطع ضرب الشيخ بيده إلى القيد ليأخذه فجاذبه الحداد عليه
فقال الواثق : دع الشيخ ليأخذه
فأخذه الشيخ فوضعه في كمه
فقال الواثق : لم جاذبت عليه ؟
قال الشيخ : لأني نويت أن أتقدم إلى من أوصي إليه إذا مت أن يجعله بيني وبين كفني ، حتى أخاصم به هذا الظالم عند الله تعالى يوم القيامة ، فأقول : يا رب ، سل عبدك هذا لم قيدني وروع أهلي وولدي وإخواني بلا حق وأوجب ذلك علي ؟
وبكى الشيخ فبكى الواثق وبكينا
ثم سأله الواثق أن يجعله في حل وسعة مما ناله
فقال الشيخ : والله يا أمير المؤمنين ، لقد جعلتك في حل وسعة من أول يوم إكراما لرسول الله صلى الله عليه وسلم ، إذ كنت رجلا من أهله
فقال الواثق : لي إليك حاجة
فقال الشيخ : إن كانت ممكنة فعلت
فقال الواثق : تقيم فينا فينتفع بك فتياننا
فقال الشيخ : يا أمير المؤمنين ، إن ردك إياي إلى الموضع الذي أخرجني منه هذا الظالم أنفع لك من مقامي عليك ، ولأخبرك بما في ذلك : أصير إلى أهلي وولدي وأكف دعاءهم عليك ، فقد خلفتهم على ذلك
فقال له الواثق : فتقبل منا صلة ما تستعين بها على دهرك
فقال الشيخ : يا أمير المؤمنين لا تحل لي ، أنا عنها غني ، وذو مرة سوي
قال : فسل حاجتك
قال : أو تقضيها يا أمير المؤمنين ؟
قال : نعم
قال : فخل سبيلي إلى الثغر الساعة ، وتأذن لي
قال : قد أذنت لك
فسلم الشيخ ، وخرج " الشريعة للآجري - رحمه الله - (1/527)