قراءة فى كتاب ( البيان والتبيين ) للجاحظ (2)
السلام عليكم ورحمة الله وبركاته
ومع حلقة ثانية من هذه القراءة البيانية التبيانية , وفى هذه الحلقة نستعرض مع الجاحظ أنواع ( الُّثغة ) وهى من أنواع عيوب النطق التى تُصيب البعض , ونستمتع ببعض الأمثلة المضحكة على أنواع اللُّثغات , وهلموا إلى حاجتكم ...
* * * * * * *
الحروفُ التي تَدْخُلُها اللُّثْغَة
قال أبو عثمان : وهي أربعة أحرف: القاف، والسين، واللام، والراء، فأما التي هي على الشين المعجمة فذلك شيء لا يصوِّره الخَطّ؛ لأنه ليس من الحروف المعروفة، وإنما هو مَخْرجٌ من المخارج، والمخارجُ لا تُحصَى ولا يُوقف عليها، وكذلك القولُ في حروف كثيرة من حروف لغات العجم؛ وليس ذلك في شيء أكثَرَ مِنه في لغة الخوز، وفي سواحل البحر من أسياف فارسَ ناسٌ كثير، كلامُهم يشبه الصَّفير، فمَنْ يستطيع أن يصوِّر كثيراً من حروف الزَّمزمة، والحروفِ التي تظهر من فم المجوسيّ إذا تَرك الإفصاحَ عن معانيه، وأخَذَ في باب الكناية وهو على الطعام؟
فاللُّثغة التي تعرِض للسّين تكون ثاء، كقولهم لأبي يَكسوم: ( أبي يَكثوم ) ؛ وكما يقولون: ( بُثْرَةٌ ) ، و( بِثْم اللَّهِ ) ، إذا أرادوا بُسْرة، وبسم اللَّه .
والثانية اللثْغة التي تعرِض للقاف؛ فإن صاحبها يجعل القاف طاءً، فإذا أراد أن يقول: قلت له، قال: ( طُلْت له )؛ وإذا أراد أن يقول: قال لي، قال: ( طال لي ) .
وأما اللثغة التي تقع في اللام فإن مِن أهلها مَن يجعل اللام ياء فيقول بدل قوله: اعتَلَلْتُ: ( اعتيْيت ) ، وبدل جَمَل : ( جَمَيْ ) ، وآخرون يجعلون اللامَ كافاً، كالذي عرض لعُمَر أخي هلال، فإنه كان إذا أراد أن يقول: ما العلة في هذا، قال: ( مَكْعِكّة في هذا ) .
وأمّا اللُّثغة التي تقع في الراء فإنَّ عددَها يُضعِف على عدد لثغة اللام؛ لأنّ الذي يعرِض لها أربعةُ أحرف :-
فمنهم مَن إذا أراد أن يقول: عمرو، قال: (عَمْي )، فيجعل الراء ياءً، ومنهم من إذا أراد أن يقول: عمرو، قال: ( عَمْغ ) ، فيجعل الراء غيناً، ومنهم من إذا أراد أن يقول: عمرو، قال: ( عَمْذ ) ، فيجعل الراء ذالاً، وإذا أنشد قول الشاعر: ( من الرَّمَل)
واستبدَّت مَرَّةً واحدة ... إنما العاجزُ مَن لا يستبدّ
قال:
واستبدَّت ( مَذَّة ) واحدة ... إنما العاجز من لا يستبدّ
فمن هؤلاء عليّ بن الجُنيد بن فُرَيدى، ومنهم من يجعل الراء ظاءً معجمة، فإذا أراد أن يقول:
واستبدت مرة واحدة ... إنما العاجز من لا يستبدّ
يقول:
واستبدَّت ( مَظَّة ) واحدة ... إنما العاجز من لا يستبدّ
ومنهم من يجعل الرّاء غَيناً معجمة، فإذا أراد أن ينشد هذا البيت قال:
واستبدت ( مغَّةً ) واحدة ... إنما العاجز من لا يستبدّ
كما أن الذي لُثْغته بالياء، إذا أراد أن يقول: واستبدّت مرة واحدة يقول: واستبدت مَيَّةً واحدة .
وأما اللثغة الخامسة التي كانت تعرض لواصل بن عطاء، ولسليمان بن يزيدَ العدويِّ الشاعر، فليس إلى تصويرها سبيل، وكذلك اللثغة التي تعرض في السين كنحو ما كان يعرِض لمحمَّد بن الحجاج، كاتب داود بن محمد، كاتب أم جعفر؛ فإنّ تلك أيضاً ليست لها صورةٌ في الخط تُرى بالعين، وإنما يصوِّرها اللِّسان وتتأدَّى إلى السمع .
وربَّما اجتمعت في الواحد لثُغْتان في حرفين، كنحو لثغة ( شَوْشَى ) ، صاحب عبد اللَّه خالد الأموي؛ فإنه كان يجعل اللامَ ياءً والراء ياء، قال مرّةً: ( مَويايَ وييُّ أيّيّ ) ، يريد: مولاي وليّ الرَّيّ .
واللُّثغة التي في الراء إذا كانت بالياء فهي أحقرهنَّ وأوضَعُهنَّ لذي المروءة، ثم التي على الظاء، ثم التي على الذال، فأمَّا التي على الغين فهي أيسرهنَّ، ويقال إنّ صاحبَها لو جَهَدَ نفسَه جَهْدَه، وأحَدّ لسانَه، وتكلّف مَخرج الراء على حقِّها والإفصاح بها، لم يكُ بعيداً من أن تُجيبه الطَّبيعة، ويؤثِّر فيها ذلك التعهُّد أثراً حسناً .
وقد كانت لثُغة محمَّد بن شبيبٍ المتكلّمُ، بِالغَين، وكان إذا شاء أن يقول: عَمْرو، ولعمري، وما أشبه ذلك على الصحَّة قاله، ولكنه كان يستثقل التكلُّف والتهيؤَ لذلك، فقلتُ له: إذا لم يكن المانعُ إلا هذا العذرَ فلستُ أشكُّ أنك لو احتملتَ هذا التكلُّفَ والتتبُّعَ شهراً واحداً أنّ لسانك كان يستقيم .
__________________________________
المصدر : كتاب ( البيان والتبيين ) للجاحظ تحقيق / عبد السلام هارون , الجزء الأول - ص 34 - 35 - 36 - بتصرف .