أشراف نسبوا إلى العجم
تطالعنا كتب التراجم وشجرات الأشراف بأسماء سادة من الهواشم نسبوا إلى أقوام من العجم، كانت هذه الإشارة في الحقيقة من باب نسبة الناس إلى البلاد التي أتى أجدادهم منها، أو حلوا بها فترة معتبرة من الزمان، لعل أجدادهم نزلوها لسبب من الأسباب، وزان المقام لهم بها برهة وطاب، وهذه عادة المؤرخين القدامى، أحببت هنا أن أبين أمثلة تاريخية عن هذا لمن لم يعلم.
لم يكن أصل ونسب كل قادم من بلاد العجم أو الروم أو الهند أو التركمان أو الفرس أو الكرد عجميا أو روميا أو هنديا أو تركمانيا او فارسيا أو كرديا، فإن ثمة نصوص تاريخية كثيرة في أمهات الكتب كانت قد وصفت هجرة الكثير من العرب واستيطانهم لكل هذه الأماكن حتى اندمج أجدادهم مع الأهالي، فمنهم من ذاب أصله، ومنهم من حافظ عليه.
لن أتطرق بتفصيل لذكر كل العرب الذين هاجروا إلى بلاد الاعاجم، ولكني سأذكر أمثلة قليلة -من بحر لجاج- عن أسماء مؤلفات ذكرت رجالا من آل البيت انتقلوا إلى هذه المناطق، لعلها تعطينا فكرة عن حجم هذه الهجرة عبر الأزمان الطويلة، الأمر الذي يجعلنا نتفهم كثرة من عاد من ذرياتهم إلى بلاد العرب.
ينقل لنا السيد النسابة ابراهيم بن ناصر طباطبا (من أعلام القرن الخامس الهجري) في كتابه: "منتقلة الطالبية" أسماء عدد هائل من أجداد الأشراف الذين استوطنوا بلاد العجم وتوالدوا فيها، فذكر على سبيل المثال لا الحصر: 80 هاشميا بين حسني وحسيني وجعفري وحنفي انتقلوا إلى طبرستان، وأكثر من 30 شريفا آخرين انتقلوا إلى جرجان، و15 رجلا إلى خراسان، و15 رجلا إلى سمرقند (التي أتى منها الأشراف آل المرادي مثلا)، وعددا آخر انتقلوا إلى الروم، ورواند، وطبرستان، وسجستان، وسمرقند، والسند، وقزوين، وكرمان، وكابل، ونيشابور، وخراسان، والهند،وبخارى، وزنجان، وهراة، ومرو!!
فإذا كان هذا الجمع الكبير من هؤلاء الهواشم قد انتقلوا إلى بلاد العجم في وقت بعيد، في القرون الأربعة الأولى من الهجرة، فما بالك بأعداد المنتقلين إليها في القرون التي تلت؟ ثم ما بالك ببقية أحياء العرب وقبائلهم التي انتقلت إلى تلك البلاد مع الفتوحات العربية؟
ومن أحب أن يستزيد عن أسماء الأشراف الذين انتقلوا إلى بلاد التركمان في القرون الإسلامية الأولى فلينظر كتبا كثيرة جدا، ليس أقلها: "سر السلسلة العلوية" لأبي النصر البخاري (من أهل القرن الرابع) و"تهذيب الأنساب ونهاية الألقاب" لشيخ الشرف العبيدلي (من أهل القرن الخامس)، و"المجدي في أنساب الطالبيين" لعلي بن محمد العلوي العمري (من أهل القرن الخامس)، و" لباب الأنساب والألقاب والأعقاب" لابن فندق (من أهل القرن السادس)، و"الشجرة المباركة في أنساب الطالبية" للفخر الرازي (من أهل القرن السادس)، و "الفخري في أنساب الطالبيين" للمروزي (من أهل القرن السادس)، و"الأصيلي" لابن الطقطقي (من أهل القرن الثامن)، و"عمدة الطالب في أنساب آل أبي طالب" لابن عنبة الحسني (من أهل القرن التاسع)، "بحر الأنساب" للنجفي (من أهل القرن التاسع)، وغيرهم كثير جدا، وهذه الكتب اختصت فقط بذكر الهواشم.
وإذا دققنا البحث في كتب التراجم القديمة نجد أن مؤلفيها فصلوا وفرقوا في تراجمهم بين أصل المحتد والموطن وبين الأرومة النسبية، إذ أن وصف أحدهم للمترجم بأنه تركماني أو رومي أو عجمي لا يقتضي نفي أصله ونسبه العربي، سواء علم نسبه المؤلف أم لم يعلم، فإن الرجل ينسب إلى أسلافه وينسب إلى الأرض التي أتى منها والقوم الذين نشأ أجداده بينهم او تزوجوا منهم أيضاً، لا تنافي بين الوصفين. وكم من أجداد الأسر الهاشمية قد لقب بالعجمي أو الرومي أو الكردي أو التركماني، وكانت هذه التسميات قد لحقت بأسلاف الأشراف في العصور المتقدمة والمتأخرة على حد سواء، وملأت هذه الأوصاف كتب التراجم والأنساب.
فمن المتقدمين من الأشراف نذكر السيد عيسى "الرومي" ابن علي العريضي بن الإمام جعفر الصادق، وذكره في كتب الأنساب مشهور. ومنهم أحد ذريته السيد المرتضى العجمي ابن اسماعيل محمد بن أبي عبدالله الحسن الكوفي بن أبي الحسن عيسى الرومي الأصغر بن أبي جعفر بن عيسى النقيب المتقدم. قال ابن الطقطقي النسابة في "الأصيلي": "وأعقب محمد بن الحسن من ابنه المرتضى العجمي الوارد من بلاد العجم بن اسماعيل بن محمد" . وتولى نقابة أشراف دمشق في القرن التاسع الهجري شريف يقال له: ابن العجمي، ذكره ابن طولون. وهذا جد السادة آل القصيري بأنطاكية –وهم من بني العباس بن عبدالمطلب من ذرية الخلفاء، قد لقب بالكردي، وفي ذلك يقول العلامة محمد سليم الجندي العباسي في "تاريخ معرة النعمان": "وفي أبي نصر محمد الظاهر بالله بن الناصر أحمد أبي العباس يجتمع نسبنا مع أقربائنا في أنطاكية، لأن الظاهر ولد له جعفر المنصور، جدنا السابق ذكره، وولد آخر يسمى شرف الدين، ويلقب إقبال، كان أمير الجيش، وهذا ولد له محمد، وهذا ولد له علي الكردي، قيل له ذلك لأنه أقام في بلاد الكرد مدة" . وعلي هذا هو جد السادة آل القصيري العباسيين. ومثله سمي السيد محمد فارس "الكردي" الجزيري جد السادة آل الكيخيا الحسينيين من أهل القرن التاسع كما ذكر في نسبهم المحرر عام 846هـ والموثق بخطوط النقباء والقضاة والعلماء والأشراف . وعرج الشيخ عبدالرزاق البيطار على ترجمة عدد من السادة البرزنجية فوصف عددا منهم بالكردي بسبب محل إقامتهم، منهم السيد ابراهيم البزنجي الكردي، والسيد اسماعيل البرزنجي الكردي وغيرهما .
وهذا ابن الحنبلي في ترجمته لأحد قضاة حماة وعلمائها، الشيخ محمود بن علي ابن محمد بن مصطفى الحموي الحنفي، الذي وصفه في أول الترجمة بأنه "التركماني الأصل" نجده يردف على ذلك فيقول: "وأخبرني (أي المترجم)-وهو صدوق-أنه حسيني، موسوي، وأن جده مصطفى هذا هو صاحب الكرامات والمزار الذي يزار بسيجر (شيراز)" ، ويكتب بعدها ما يدل على أنه معتقد بصحة هذا الادعاء. فلم يمنع كون المترجم "تركماني الأصل" أن يكون إلى ذلك حسينيا عربيا.
ومن أمثلة ذلك أيضاً إخبار ابن الحنبلي عن أحد المترجمين أنه "السيد الشريف الحسيني، العجمي الشرواني، الشافعي" ، فنسب المترجم إلى الحسين رضي الله عنه، ثم نسبه إلى شروان من بلاد العجم، فلم يمانع كونه "عجمياً" أنه حسيني النسب. وفي ترجمة أخرى لأحد الأشراف قال: "محمد بن أحمد بن علي بن ابراهيم، أقضى القضاة ناصر الدين أبو عبدالله العجمي الأصل، الحلبي المولد، الإدربيلي الخرقة، الحسيني، الحنبلي المشهور بالسيد المهمازي" ، فجمع بين سيادته وانتمائه لسيدنا الحسين في النسب، وبين كونه عجمي الأصل. وترجم ابن الحنبلي لشريف حسيني فقال: "زين العابدين بن نعمة الله ابراهيم الرومي الأصل الحسيني الحنفي" .
ومثال ذلك ايضا ما سرده النجم الغزي في الكواكب السائرة من ترجمة لأحد الرجال فقال في ترجمته: "محمد بن العجمي الحنبلي: محمد بن أحمد بن علي بن ابراهيم بن أقضى القضاة، السيد الشريف ناصر الدين أبو عبدالله العجمي الأصل، الحلبي المولد، الإردبيلي الخرقة، الحسيني الحنبلي..." فاجتمع الوصف بأصله العجمي، مع سيادته وشرفه ونعته بالحسيني. ووصف بعض أجداد السادة آل المرادي في الكتب والإجازات بالبخاري نسبة إلى جهة قدومهم، وهكذا.
على هذا اقتضى الأمر أن تكون نظرتنا إلى كتب المؤرخين السابقين نظرة متفهمة لعصرهم الذي خلا من الحدود والجمارك بين بلدان المسلمين وما يأتي مع ها من سهولة التنقل والاستيطان في أراضي الدولة الإسلامية الممتدة من أواسط آسيا إلى مجاهل افريقيا، نظرة واعية تقرأ المعاني فلا تأخذها بسطحية واهية ولا تفسرها بتفسير حديث لا محل له في كتابات الأقدمين، فإن هذا ليس من البحث والدراسة في شيء.
منقول من الرابط السابق ذكره